في كل يوم تثبت العلمانية عداءها للإسلام، وتكشف عن وجهها القبيح ـ الذي طالما حاولت إخفاءه ـ في محاربة الأديان وخاصة دين الإسلام، وقضية منع الحجاب لم تكن القضية الوحيدة في هذا الباب ولكنها كانت فصلا من فصول هذا العداء السافر.
لقد صدر قانون منع ارتداء الحجاب على الفتيات المسلمات في المدارس الفرنسية في يوم 15/3/2004.. وقد تكلم جميع الناس، عالمهم وجاهلهم، في قضية الحجاب، وجميعهم، الموضوعيون فيهم والمنحازون، كتبوا باستفاضة، وكل الهيئات والمؤسسات الإعلامية ملأت الدنيا ضجيجا وصخبا حول الموضوع ووجهت الرأي العام إلى الوجهة التي تريد.. ولكن العجيب والعجيب جدا أنه لم تتح أي فرصة لواحدة من هؤلاء المحجبات أن تدلي برأي أو تتحدث عن واقع أو تخبر بمعاناة؛ رغم أنهن المعنيات قبل غيرهن بهذه الهجمة وهذا القانون الظالم.
بل حتى لجنة "ستازي" الشهيرة أعرضت عنهن كأنهن غير موجودات البتة، واستدعت من له الحق في الكلام ومن ليس له الحق، وأنصتت لمن تشاء وصمت آذانها عن أولئك النساء.
أسمهان علقت على هذا الوضع قائلة: "الجميع كان يتحدث عنا، وحول قضيتنا، ودون مشاركتنا، ولم يكن لدينا أي وسيلة لإبلاغ مواقفنا".
وأمام هذا الاعوجاج والتوزيع الظالم لحق الكلام، قرر ثلاثة من المؤلفين الفرنسيين وضع حد لمهزلة "الكلمة المخنوقة" وإسماع أصوات نماذج من الفتيات المقهورات لجميع الفرنسيين والعالم في كتاب جمع شهادات أكثر من 44 امرأة مراهقة وبالغة. معطيا الفرصة للمتهمات أنفسهن ليتحدثن بكل هدوء وثقة وقول ما لديهن وما تكنه صدورهن، ولو كان اتهاما أو نداء لأي جهة كانت".
ولقد أظهرت هذه الشهادات للفتيات المسلمات الفرنسيات وغير الفرنسيات اضطهادا عنيفا، ومعاناة شديدة، وعنصرية مقيتة، وكراهية عجيبة للإسلام وأهله وكل ما ينتمي إليه.. من دولة تظن أنها بلغت "الإمامة في العلمانية والديمقراطية"، ولكنها بالمقابل تشعر بالخوف من مجرد سترة صغيرة لغطاء الرأس.
خوف مزدوج
ولم يكن الأمر سهلا لإخراج هؤلاء النسوة من حالة الصمت إلى حالة الكلام، إذ في مقابل قبول امرأة واحدة للبوح، رفضت عشر نساء أن ينطقن بحرف خوفا وحذرا من أن يساء فهم كلامهن أو يؤول تأويلا خاطئا.
خوف مزدوج اكتسح المتحدثات: خوف من الإفصاح عما في ذات الصدور، وخوف من رد فعل غير منطقي مسكون بخلفية تاريخية ممتلئة بالتمييز والأوهام.
تقول مليكة: "كنت أكافح في كثير من الأحيان شعورا بالقلق الرهيب، وإغواءً نفسيا بالتخلي عن هذه الشهادة، فلو أني نطقت بمحنتي لقيل إنني أحب أن أكون ضحية، وإن سكت عن الكلام لقيل إنه ليس لدي ما أشكو منه".
وحين عزمن على إطلاق العنان للتعبير كن على وعي بالثمن الذي يقتضيه هذا العزم، تقول أسمهان: "كنت أدرك أنني بحديثي عن معاناتي وحالتي والدفاع عن حقوقي، سأكون عرضة لردود فعل عنيفة، ولكن لا مجال للتراجع، فللكلمة ضريبتها، وهي ضريبة، على مرارتها، أخف وزنا من صمت ذي ضريبة أثقل حملا، أتنكر بها لنفسي وإيماني ويقيني. فضلت أخيرا الظهور وتحمل الضربات على أن أبقى حبيسة الصمت وما بين السرائر".
شهادات مؤثرة
اعترف تيفانيان (وهو أحد الكتاب الثلاثة الذين قاموا بتأليف الكتاب) أن الشهادات المنشورة في الكتاب غيرت موقفه من المحجبات، فهي شهادات أبلغ من كل تحليل أو سعي للإقناع، فلكل فتاة قصة تختلف وتلتقي مع الفتيات الأخريات، وجميع تلك الشهادات تضع السياسة الفرنسية في قفص الاتهام دون جدال.
بعض الشهادات مؤثرة جدا لبساطتها مثل شهادة سمية المغربية ذات الأربع وعشرين عاما التي نشأت مع أخيها الوحيد وخمس من أخواتها بحي شعبي بمدينة ستراسبورغ، وحيث استقر أبوها الأجير، وأمها ربة البيت، منذ 27 عاما قادمين من المغرب.
استعرضت سمية - وهو اسم مستعار مثل سائر أسماء الفتيات حسب المؤلفين- أصنافا من الإهانة والقمع والسخرية والمنع تعرضت لها في دراستها، حتى قرر المجلس التأديبي طردها من الفصل الدراسي ما قبل الأخير وهي قاب قوسين من التخرج.
بذلت كل جهد لإرضاء نظار المدارس بأن ما تضعه فوق رأسها ليس حجابا، وغيرت أشكاله وألوانه وأوضاعه دون أن تنال الرضى.
ولدى خروجها من المجلس التأديبي وجدت والدها ينتظرها، فعانقها بقوة وبكى. قالت سمية: "لم أشاهد أبي يبكي أبدا طوال حياتنا، وكان ذلك اليوم الذي بكى فيه يوما وحيدا، ويوما مشهودا". بعد الطرد قضت سمية ثلاث سنوات تبحث عن مدرسة تتابع فيها تعليمها, ثم البحث عن عمل.
أما ماريان (19 عاما) فلا تتركها الناظرة، المبعوثة الخاصة إلى الثانوية، تنطق بكلمة كلما حاولت الحديث، وطفقت تكرر لها بين الفينة والأخرى "لا.. لقد قيل لي عنك أنت بالخصوص إنه لا يمكن التفاهم معك، وإن آخرين سيطروا على عقلك لتسيطري بدورك على زميلاتك. فلماذا التفاوض معكن وأنتن مستلبات، مبرمجات".
أما منى بشار (20 سنة) فقد اقترح عليها أستاذ الرياضيات يوم الاختبار أن تنزع حجابها إن أرادت علامة إضافية مثل زميلاتها، لكنها رفضت، فحرمت من النقطة من دونهن.
وحين بكت سارة (20 سنة) من ظلم القانون قيل لها "امسحي عنا دموع التماسيح".
بنات بن لادن
أقوال لاذعة وكلمات قاسية قذفت في وجوه المحجبات من المجتمع والشركات ومن الإعلام. أشدها إيلاما "عودي إلى مطبخك" التي تكررت في شهادات فتيات أنهين دراستهن وشرعن يبحثن عن العمل.
حنان (27 عاما) بحثت عن عمل بعد تخرجها فلم تجده قبل صدور القانون ولا بعده، بسبب لباسها. في بعض الحالات كانت تجده عبر الهاتف، لكنها كانت ترد بمجرد رؤيتها وهي محجبة، ثم يقال لها مثل ما قيل لمثيلات لها "لن تحصلي على عمل بهذا الذي تضعينه فوق رأسك، فعودي إلى مطبخك". البعض الآخر من الفتيات روين أنهن عُيِّرن بأنهن "بنات بن لادن"، وقيل لهن "عودوا إلى طهران".
جميع الفتيات اللائي شهدن في الكتاب عشن تجربة أو تجارب وصفنها بأنها مؤلمة ومهينة، وكلهن تحدثن بالإضافة إلى هذه المشاهد الجارحة، عن نظرات يومية تقطر بالعدوانية والاتهام. كلهن سمعن الكلمات نفسها التي يمكن تلخيصها في جملتي "عودي إلى بلدك" و"عودي إلى مطبخك".
تناقض فاضح
يصف الكتاب الثلاثة أن هذه القذائف طافحة بالتمييز العنصري، وتضع أصحاب قانون المنع أمام أمر سعوا إلى محاربته، فإذا بهم يصنعون واقعا أشد منه ظلما، ألم يكن هدف منع الحجاب هو مكافحة التطرف الديني والانكماش الطائفي ورفع القهر عن النساء (بزعمهم).
لقد كان لقانون 15مارس/آذار 2004 ميزتان متناقضتان، فهو من جهة تذرع بمبادئ العلمانية والمساواة بين الجنسين، ولكنه في المقابل شجع أخس مشاعر رفض الآخر والرغبة في العدوان والنذالة في التهجم على أقلية اجتماعية مقهورة.
ويختم المؤلفون كتابهم بتوجيه نداء إلى المجتمع الفرنسي يحثونه فيه على الانتباه والحذر مما يساق إليه، وقال المؤلفون: "بعد قراءة هذا الكتاب سيتجلى التناقض الصارخ الفاضح: "لا يمكن تحدي الحجاب وقبول منعه إلا بجهل تام لحقيقة النساء الفرنسيات اللاتي يرتدينه".
نضال مزدوج
وقبل نقطة النهاية، يعلن المؤلفون أن إعادة النظر في قضية الحجاب صارت ضرورية. مراجعة ينبغي أن تتناول مسألة الإكراه في الارتداء أو في المنع، وليس الحجاب في حد ذاته.
كثير من المتحدثات في طول الكتاب وعرضه أكدن أنه لا فرق بين ارتداء الحجاب بالإكراه وإكراه المحجبات على نزعه باسم القانون، وإن المعركة في كلتا الحالتين واحدة، معركة حرية الاختيار.
إن شهادات المحجبات المقهورات لا تتهم هنا المجتمع الفرنسي أو فئة منه، بل يتهمن قانونا بعينه وتداعيات التهميش والإقصاء المنبثقة عنه، كما يحللن تحولات الجمهورية الفرنسية وثقوبها السوداء.
وعلى الرغم مما تحمله بعض الشهادات من غضب صارخ وكلمات قوية. إلا أن هذه الشهادات وأولئك الفتيات المحجبات يستنهضن كل قارئ على الانخراط معهن وتأييدهن في قضيتهن .