عاش الجزائريون، ليلة بيضاء، بعد التأهل الرسمي للفريق الوطني نحو مونديال جنوب إفريقيا. وتعالت الزغاريد والأغاني والأهازيج ربوع الوطن، في مشهد أقل ما يقال عنه بأنه انتصار آخر للشعب الجزائري على الحفرة حققه أشبال رابح سعدان بعد مباراة الخرطوم.
خرجوا كبارا وصغارا... وأقاموا الأفراح وتعالت الزغاريد ومنبهات السيارات التي احتلت الطرقات عبر الوطن، لم تكن فرحة عادية بل أكبر من أي تعبير يعجز القلم عن وصفه... ركبوا الشاحنات والسيارات والدراجات النارية وحتى ''الكاليش'' والجرارات التي زينت بالرايات الوطنية وصور زياني وصايفي والفريق الوطني...
بعد أن حبس أشبال الشيخ رابح سعدان الأنفاس لأكثر من 35 مليون جزائري طيلة المباراة، دوّت الأهازيج سماء الجزائر إعلانا عن تأهلنا إلى كأس جنوب إفريقيا 2010، الحلم الذي انتظره الجميع ليعيد المجد للكرة الجزائرية.
من تبسة إلى مغنية، ومن العاصمة إلى تمنراست، لا أحد نام، ولا أحد تملّك نفسه، فالكل خرج إلى الشارع بدءا من العجوز الطاعنة في السن وصولا إلى الرضع الذين حملهم أولياءهم وهم يرتدون ألوان العلم الوطني وكلهم براءة وبشاشة لا يضاهيها أي شيء.
''اليوم فقط سنفتح صفحة جديدة ونضع حدا للمشككين في قدراتنا الكروية''، يقول حكيم 55 سنة، وهو يدوي بمنبه سيارته سماء حي باب الوادي الشعبي، الذي حوّلته الألعاب النارية إلى قبلة لكل العاصميين الذين يفضلون الاحتفال في هذا الحي الرمز. وعلى الرغم من كل هذا، فإن كل حي من أحياء الجزائر العميقة هو رمز للاحتفال بتأهل الخضر بمختلف الطرق التي تعبّر عن الفرحة التي تقطع الأنفاس.
الجزائر كلها رايات
''الخبر'' التي خرجت إلى الشارع بعد صفارة الحكم مباشرة، كغيرها من الجزائريين، التمست في الأجواء التي انتظرها الجميع منذ أشهر، ''الرغبة'' في التعبير عن الفرحة بشتى الطرق. تبادل التهاني ليلة أمس، كان أكثر بكثير من تبادلها صبيحة الأعياد والمنازل ظلت أبوابها مفتوحة.
تقول ليلى 28 سنة، بأنها انتظرت طويلا أن تشهد تأهل الجزائر إلى المونديال، حيث تقول ''أنا لم أعش في مونديال ,1982 الذي صنع أمجاده رابح ماجر ولخضر بلومي، واليوم تحقق حلمي بتأهل رفاق زياني وغزال إلى مونديال جنوب إفريقيا''.
وتضيف المتحدثة ''في البيت الاستعداد لهذا العرس لا نظير له، فقد أعددنا الحلويات وكل الأطباق التقليدية للاحتفال''. ولم تختلف الأجواء في كل البيوت التي تفننت النسوة بعد المباراة في تحضيرها، كطبق ''الكسكس'' و''الشخشوخة'' و''الرشتة'' والدجاج المحمر.
ولم يسبق أن شهدت الجزائر مثل هذه الأجواء وهذا الديكور الذي يحمل اللون الأبيض والأخضر والأحمر. ويرى المتتبعون بأن ''الجزائر لم تشهد من قبل تهافتا كبيرا على الرايات الوطنية والألبسة الرياضية للمنتخب الوطني مثلما شهدته منذ حوالي شهر''. فكل الأزقة والأحياء تزينت بالأعلام ورسمت جداريات تعبّر عن مناصرة الخضر ومؤازرتهم طيلة التصفيات، لكن بأكثر حدة مع مباراة أمس في ''استاد المريخ''.
وإن اختلفت أحجام الرايات وأشكالها، فإنها لم تختلف في طريقة التعبير عن الفرحة، حيث خيطت القمصان والرايات الوطنية وارتداها الكبير والصغير. حتى أن المجاهدين أخرجوا الرايات التي شهدت الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وحتى الرايات التي رفعت بعد الإعلان عن الاستقلال وكانت فأل خير على الجزائر بعد 47 سنة كاملة.
وإن اختلفت آراء الجيل الشاب للجزائر، فإنها اجتمعت كلها على أن الفرجة جاءت بعد المحنة التي عاشها الفريق الوطني في بلد الفراعنة، الذين أرادوا تحطيم معنويات الخضر، لكن ذلك لم يحبط من عزيمة رفاق صايفي وغزال وزياني، الذين أصروا على تحقيق التأهل مهما حدث.
سبعة أيام وسبعة ليال للفرح
الجميل في كل ما شهدته الجزائر منذ أيام أن الاستعدادات كانت كلها تصب في إطار واحد وهو ''أن يزف الفريق الوطني إلى المونديال بأجمل حلة''، مثلما يقول ذلك المناصرون الذين يصرون على أن الاحتفال لن يقتصر على ليلة أمس، بل سيكون طيلة سبعة أيام وسبعة ليال، بل هناك من سيواصل الاحتفال إلى غاية موعد المونديال في جنوب إفريقيا الصيف القادم.
ويهتف ''حميد'' 17 سنة بحياة الفريق الوطني قائلا ''لن ننام...والحمد لله أن المباراة تزامنت مع الإضراب فلا دراسة والوقت كله مخصص للاحتفال والفرحة''. ويضيف ''لن ننام والفرحة لم تسعنا في الحي واتجهنا إلى وسط المدينة حيث ''الفيميجان'' والألعاب النارية، التي أعلنت بداية عهد جديد للجزائر''.
ودوّت الأغاني الرياضية التي تحتفي بالفريق الوطني كل ربوع الوطن، وامتزجت الأغاني القبائلية بالشاوية والسطايفية والعاصمية، تعبيرا عن الفرحة التي كانت منتظرة بعد مشوار حافل للخضر الذين أبلوا البلاء الحسن وأعادوا للكرة الجزائرية مجدها الضائع وزرعوا الأمل في كل أنحاء الوطن.
ولم تكبح النسوة والعجائز والفتيات فرحتهن، وخرجن في السيارات يهتفن بحياة الفريق الوطني والجزائر، وتعالت الزغاريد من الشرفات والنوافذ ومن كل شبر من الوطن الذي لم يشهد مثل هذه الأجواء، ولم يخلد أحد للنوم. ''هل يعقل أن تنام والجزائر قهرت الفراعنة، وتأهلنا للمونديال''، تقول حسينة، التي ارتدت حجابا وجلبابا بالاون الأبيض والأخضر ورصّعته بنجمة وهلال، في حلة جميلة، وهي تنفعل مع الأهازيج والأفراح التي دوت السماء عاليا.
أما عمي محمد 54 سنة، فيقول ''لا أظن بأنني سأتجه إلى عملي اليوم، لأنني لم أنم، ولا حتى مسؤول سيكون في مكتبه في الثامنة صباحا''. لكنه يستدرك قائلا ''لا يهم أني لم أنم، سأتجه إلى عملي مباشرة، وسأؤدي ما عليّ أحسن ما يرام لأن ''المورال طالع'' (أي المعنويات مرتفعة)''.
أما طلبة الإقامات الجامعية فلم تسعهم الفرحة هم أيضا، ''وفرّطوا في وجبة العشاء''، التي تزامنت مع توقيت المباراة، وخرجوا جماعات وفرادى للمشاركة في الاحتفالية التي لم تستثن أحدا على الإطلاق، حاملين الأعلام الوطنية.
البارود و الزرنة و ''الديسك جوكي'' في كل مكان
ولم يتمالك العرسان الذين اختاروا ليلة الـ18 نوفمبر، لإعلان زفافهم، حيث خرجوا بلباسهم في جو أقل ما يقال عنه أنه لم يسبق أن عاشه عرسان قبلهم. وجعلوا من المباراة الفاصلة فأل خير عليهم، وأن يخلّد يوم زفافهم في تاريخ الجزائر ويذكر الجميع بما فيهم أبناءهم هذا التاريخ.
ويقول أحد العرسان ''اليوم فرحتي كبيرة، ولا يمكنني أن أصفها، فالجزائر كلها تحتفل بعرسي، وهذا قلما يحدث''. ويؤكد بأنه أجّل تاريخ العرس عدة مرات، وفضّل أن يتزامن مع آخر مباراة للفريق الوطني، ليكون العرس كبيرا ويشهده ملايين الجزائريين.
وخرجت فرق الطبلة والزرنة و''الديسك جوكي'' من قاعات الحفلات، إلى الشوارع والأحياء، ودوى صوت البارود الأرجاء، ورقص الجميع على أنغام الموسيقى الرياضية وأغاني الأفراح والأعراس.
وعلى الرغم من برودة الطقس ليلا، فلم تتوقف الفرحة لحظة واحدة، ولم يتعب أحد من الصراخ والأهازيج والزغاريد، التي يتفنن فيها الرجال كما النساء. أما السيارات فقد استعدت باكرا لهذه الفرحة، وزودت بالوقود اللازم وزيّنت بالأعلام الوطنية و''بوستير'' الفريق الوطني الذي أهدته ''الخبر'' للجزائريين.
ولم تستثن الفرحة وصور التعبير عنها حتى ''كباش العيد'' التي صنعت الفرجة، وارتدت العلم الوطني وخرجت مع الأطفال للتعبير عن الفرحة التي انتظرها الجميع، وسبقت فرحة الصغار بعيد الأضحى هذا العام، إن لم نقل أنها أجّلتها إلى إشعار غير لاحق.
وحتى المقاهي والمطاعم ومحلات بيع المواد الغذائية، فقد وزع أصحابها المشروبات والأطعمة والحلويات مجانا.
... حتى المرضى والشرطة والدرك
الفرحة التي استمرت ولا تزال، لم تستثن حتى رجال الشرطة والدرك الوطني، الذين لم يتمالكوا أنفسهم وارتسمت على محياهم ابتسامة عريضة، ولم يخفوا انبهارهم بأداء الفريق الوطني في الخرطوم، وراحوا يؤطرون حركة المرور وهو يهتفون بروح الجزائر.
ويقول أحد رجال الشرطة ''الفرحة لا تسع قلوبنا فنحن لم نشهد هذا النزوح من قبل، والله تدوم أفراح الجزائر''. ويضيف ''كنت أرغب في أن لا يتزامن يوم المباراة مع يوم عملي لأتحرر من الزي الرسمي وأحمل العلم الوطني في يدي بدل الصفارة، لكن المهم اليوم أننا تأهلنا''.
يقول أحد رجال الدرك ''لم نكن نتوقع أن نعيش هذه الأجواء، فقوافل المواطنين الذين يقلون المركبات لم تتوقف عن التوافد، ومن الصعب أن نحرمهم من التعبير عن الفرحة رغم مخالفة القانون بعض الشيء. ومع ذلك فنحن لن نتسامح مع البعض حفاظا على حياتهم''.
وعاشت المستشفيات أجواء لم تشهدها من قبل، حيث زيّن المرضى أسرّتهم بالأعلام الوطنية والبالونات التي تحمل الألوان الثلاثة، وخرج البعض منهم ليهتف بحياة الفريق الوطني. أما الأطفال الذين لا يسمح لهم بالخروج من قاعات العلاج والمتابعة فاكتفوا بالمشاركة في الفرحة من خلال زجاج النوافذ.
إن الفرحة التي عاشتها ولا تزال الجزائر، لا يمكن أن تسعها صفحات الجرائد، ولا شاشات التلفزيون لأنها امتدت على أكثر من 2 مليون متر مربع من ربوع الوطن.
واليوم لم تسع الفرحة أحد، لا المواطن البسيط ولا حتى المسؤولين الكبار في الدولة، بل حتى حجاجنا في مكة والمدينة المنورة الذين ''لم يبخلوا عن الفريق بالدعاء للتأهل، خرجوا هم أيضا للاحتفال''.
ولا يبقى اليوم إلا التأكيد على أن الفرحة التي أثلجت صدر الكبير قبل الصغير لن تضاهي بعد اليوم أية فرحة أخرى، خصوصا وأنها كانت منتظرة بعد كل ما عاشته الجزائر. وإن كانت التحية والتقدير سترفع لكل لاعب من لاعبي المنتخب الوطني كل باسمه، فإنها أيضا مستحقة لأكثر من 35 مليون جزائري ساندوا فريقهم وآمنوا بقدراته منذ المبارايات الأولى في التصفيات التي خاضها مع مصر ورواندا وزامبيا.. واليوم فرحة وغدا فرحة وبعده أفراح وأفراح...